كَانَ يُوحَنَّا الْمِسْكِينُ حَزِينًا جِدًّا؛ لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَرِيضًا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ أَيُّ أَمَلٍ فِي شِفَائِهِ.
جَلَسَ يُوحَنَّا وَحْدَهُ مَعَ الرَّجُلِ الْمَرِيضِ فِي الْغُرْفَةِ الصَّغِيرَةِ، وَكَانَ الْمِصْبَاحُ قَدْ أَوْشَكَ عَلَى الِانْطِفَاءِ؛ فَقَدْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَأَخِّرًا مِنَ اللَّيْلِ.
قَالَ الْأَبُ الْمَرِيضُ: "لَقَدْ كُنْتَ ابْنًا صَالِحًا يَا يُوحَنَّا، وَسَيُعِينُكَ اللهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا."
نَظَرَ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَتَحَدَّثُ، بِعَيْنَيْنِ وَدِيعَتَيْنِ صَادِقَتَيْنِ، ثُمَّ تَنهَّدَ تَنْهِيدَةً عَمِيقَةً وَمَاتَ؛ وَمَعَ ذَلِكَ، بَدَا كَأَنَّهُ لَا يَزَالُ نَائِمًا.
بَكَى يُوحَنَّا بِحُرْقَةٍ.
لَمْ يَعُدْ لَدَيْهِ أَحَدٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْوَاسِعِ الْآنَ؛ لَا أَبٌ وَلَا أُمٌّ وَلَا أَخٌ وَلَا أُخْتٌ.
يُوحَنَّا الْمِسْكِينُ!
رَكَعَ بِجَانِبِ السَّرِيرِ، وَقَبَّلَ يَدَ أَبِيهِ الْمَيِّتِ، وَذَرَفَ دُمُوعًا كَثِيرَةً وَمُرَّةً.
وَلَكِنْ فِي النِّهَايَةِ، أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ وَغَطَّ فِي النَّوْمِ وَرَأْسُهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى عَمُودِ السَّرِيرِ الْخَشَبِيِّ الْقَاسِي.
ثُمَّ حَلَمَ حُلْمًا غَرِيبًا؛ رَأَى كَأَنَّ الشَّمْسَ تُشْرِقُ عَلَيْهِ، وَأَنَّ أَبَاهُ حَيٌّ وَبِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ، بَلْ وَسَمِعَهُ يَضْحَكُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ عَادَةً عِنْدَمَا يَكُونُ سَعِيدًا جِدًّا.
أَمْسَكَتْ بِيَدِهِ فَتَاةٌ جَمِيلَةٌ، تَرْتَدِي تَاجًا ذَهَبِيًّا عَلَى رَأْسِهَا، وَشَعْرُهَا طَوِيلٌ لَامِعٌ؛ وَقَالَ أَبُوهُ: "انْظُرْ أَيَّ عَرُوسٍ فَزْتَ بِهَا. إِنَّهَا أَجْمَلُ فَتَاةٍ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا."
ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَاخْتَفَتْ كُلُّ الْأَشْيَاءِ الْجَمِيلَةِ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مُلْقًى مَيِّتًا عَلَى السَّرِيرِ، وَهُوَ وَحِيدٌ تَمَامًا.
يُوحَنَّا الْمِسْكِينُ!
خِلَالَ الْأُسْبُوعِ التَّالِي، دُفِنَ الرَّجُلُ الْمَيِّتُ. سَارَ الِابْنُ خَلْفَ النَّعْشِ الَّذِي يَحْمِلُ جُثْمَانَ أَبِيهِ الَّذِي أَحَبَّهُ حُبًّا جَمًّا، وَالَّذِي لَنْ يَرَاهُ مَرَّةً أُخْرَى أَبَدًا.
سَمِعَ صَوْتَ التُّرَابِ يَتَسَاقَطُ عَلَى غِطَاءِ النَّعْشِ، وَظَلَّ يُرَاقِبُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوَى زَاوِيَةٍ صَغِيرَةٍ، وَفِي النِّهَايَةِ اخْتَفَتْ تِلْكَ الزَّاوِيَةُ أَيْضًا. شَعَرَ كَأَنَّ قَلْبَهُ سَيَنْفَطِرُ مِنْ ثِقَلِ الْحُزْنِ، إِلَى أَنْ أَنْشَدَ الْوَاقِفُونَ حَوْلَ الْقَبْرِ مَزْمُورًا، فَجَلَبَتِ الْأَنْغَامُ الْعَذْبَةُ الْمُقَدَّسَةُ الدُّمُوعَ إِلَى عَيْنَيْهِ، مِمَّا خَفَّفَ عَنْهُ.
أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ بِضِيَاءٍ عَلَى الْأَشْجَارِ الْخَضْرَاءِ، كَأَنَّهَا تَقُولُ: "يَجِبُ أَلَّا تَكُونَ حَزِينًا هَكَذَا يَا يُوحَنَّا. أَلَا تَرَى السَّمَاءَ الزَّرْقَاءَ الْجَمِيلَةَ فَوْقَكَ؟ أَبُوكَ هُنَاكَ فِي الْأَعْلَى، وَهُوَ يَدْعُو الْآبَ الْمُحِبَّ لِلْجَمِيعِ أَنْ يُوَفِّقَكَ فِي مُسْتَقْبَلِكَ."
قَالَ يُوحَنَّا: "سَأَكُونُ دَائِمًا صَالِحًا، وَحِينَئِذٍ سَأَذْهَبُ لِأَكُونَ مَعَ أَبِي فِي السَّمَاءِ. يَا لَهَا مِنْ فَرْحَةٍ عِنْدَمَا نَرَى بَعْضَنَا الْبَعْضَ مَرَّةً أُخْرَى! كَمْ سَيَكُونُ لَدَيَّ لِأَرْوِيَهُ لَهُ، وَكَمْ مِنَ الْأَشْيَاءِ سَيَتَمَكَّنُ مِنْ شَرْحِهَا لِي عَنْ مَبَاهِجِ السَّمَاءِ، وَيُعَلِّمُنِي كَمَا كَانَ يَفْعَلُ عَلَى الْأَرْضِ. أَوْه، يَا لَهَا مِنْ فَرْحَةٍ!"
صَوَّرَ كُلَّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِوُضُوحٍ شَدِيدٍ، حَتَّى أَنَّهُ ابْتَسَمَ بَيْنَمَا كَانَتِ الدُّمُوعُ تَنْسَابُ عَلَى خَدَّيْهِ.
زَقْزَقَتِ الطُّيُورُ الصَّغِيرَةُ فِي أَشْجَارِ الْكَسْتَنَاءِ: "تْوِيتْ، تْوِيتْ"؛ كَانَتْ سَعِيدَةً جِدًّا، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا شَهِدَتِ الْجِنَازَةَ؛ لَكِنْ بَدَا كَأَنَّهَا تَعْرِفُ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَيِّتَ الْآنَ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ لَدَيْهِ أَجْنِحَةً أَكْبَرَ وَأَجْمَلَ مِنْ أَجْنِحَتِهَا؛ وَأَنَّهُ سَعِيدٌ الْآنَ، لِأَنَّهُ كَانَ صَالِحًا هُنَا عَلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ فَرِحَةٌ بِذَلِكَ.
رَأَى يُوحَنَّا الطُّيُورَ تَطِيرُ بَعِيدًا مِنْ بَيْنِ الْأَشْجَارِ الْخَضْرَاءِ إِلَى الْعَالَمِ الْوَاسِعِ، وَتَمَنَّى أَنْ يَطِيرَ مَعَهَا؛ وَلَكِنْ أَوَّلًا، قَطَعَ صَلِيبًا خَشَبِيًّا كَبِيرًا، لِيَضَعَهُ عَلَى قَبْرِ أَبِيهِ؛ وَعِنْدَمَا أَحْضَرَهُ إِلَى هُنَاكَ فِي الْمَسَاءِ، وَجَدَ الْقَبْرَ مُزَيَّنًا بِالْحَصَى وَالزُّهُورِ. لَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غُرَبَاءُ؛ أُولَئِكَ الَّذِينَ عَرَفُوا الْأَبَ الْعَجُوزَ الصَّالِحَ الَّذِي مَاتَ الْآنَ، وَالَّذِينَ أَحَبُّوهُ حُبًّا جَمًّا.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي الْبَاكِرِ، حَزَمَ يُوحَنَّا صُرَّتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنَ الْمَلَابِسِ، وَوَضَعَ كُلَّ نُقُودِهِ، الَّتِي كَانَتْ تَتَكَوَّنُ مِنْ خَمْسِينَ دُولَارًا وَبِضْعَ شِلِنَاتٍ، فِي حِزَامِهِ؛ وَبِهَذَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يُجَرِّبَ حَظَّهُ فِي الْعَالَمِ. وَلَكِنْ أَوَّلًا ذَهَبَ إِلَى فِنَاءِ الْكَنِيسَةِ؛ وَعِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ، رَفَعَ دُعَاءً، وَقَالَ: "وَدَاعًا."
بَيْنَمَا كَانَ يَمُرُّ عَبْرَ الْحُقُولِ، بَدَتْ كُلُّ الزُّهُورِ نَضِرَةً وَجَمِيلَةً تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ الدَّافِئَةِ، وَتَمَايَلَتْ مَعَ الرِّيحِ، كَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ: "أَهْلًا بِكَ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، حَيْثُ كُلُّ شَيْءٍ نَضِرٌ وَمُشْرِقٌ."
ثُمَّ الْتَفَتَ يُوحَنَّا لِيُلْقِيَ نَظْرَةً أَخِيرَةً عَلَى الْكَنِيسَةِ الْقَدِيمَةِ، الَّتِي تَعَمَّدَ فِيهَا فِي طُفُولَتِهِ، وَحَيْثُ كَانَ أَبُوهُ يَصْطَحِبُهُ كُلَّ أَحَدٍ لِسَمَاعِ الْقُدَّاسِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي تَرْتِيلِ الْمَزَامِيرِ.
وَبَيْنَمَا كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْبُرْجِ الْقَدِيمِ، لَمَحَ قَارِعَ الْأَجْرَاسِ وَاقِفًا عِنْدَ إِحْدَى الْفَتَحَاتِ الضَّيِّقَةِ، يَرْتَدِي قُبَّعَتَهُ الْحَمْرَاءَ الصَّغِيرَةَ الْمُدَبَّبَةَ، وَيُظَلِّلُ عَيْنَيْهِ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ بِذِرَاعِهِ الْمَثْنِيَّةِ. أَوْمَأَ يُوحَنَّا لَهُ بِالْوَدَاعِ، فَلَوَّحَ لَهُ قَارِعُ الْأَجْرَاسِ الصَّغِيرُ بِقُبَّعَتِهِ الْحَمْرَاءِ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَقَبَّلَ يَدَهُ لَهُ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، لِيُظْهِرَ أَنَّهُ يَكُنُّ لَهُ مَشَاعِرَ طَيِّبَةً وَيَتَمَنَّى لَهُ رِحْلَةً مُوَفَّقَةً.
وَاصَلَ يُوحَنَّا رِحْلَتَهُ، وَهُوَ يُفَكِّرُ فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي سَيَرَاهَا فِي الْعَالَمِ الْكَبِيرِ الْجَمِيلِ، حَتَّى وَجَدَ نَفْسَهُ أَبْعَدَ عَنْ مَنْزِلِهِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ حَتَّى أَسْمَاءَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي مَرَّ بِهَا، وَكَادَ لَا يَفْهَمُ لُغَةَ النَّاسِ الَّذِينَ الْتَقَاهُمْ، فَقَدْ كَانَ بَعِيدًا جِدًّا، فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ.
فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى، نَامَ عَلَى كَوْمَةِ قَشٍّ فِي الْحُقُولِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَرِيرٌ آخَرُ؛ لَكِنَّهَا بَدَتْ لَهُ جَمِيلَةً وَمُرِيحَةً لِدَرَجَةِ أَنَّ مَلِكًا لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَتَمَنَّى أَفْضَلَ مِنْهَا. الْحَقْلُ، وَالْجَدْوَلُ، وَكَوْمَةُ الْقَشِّ، مَعَ السَّمَاءِ الزَّرْقَاءِ فَوْقَهَا، شَكَّلَتْ غُرْفَةَ نَوْمٍ جَمِيلَةً.
كَانَ الْعُشْبُ الْأَخْضَرُ، مَعَ الزُّهُورِ الْحَمْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ الصَّغِيرَةِ، هُوَ السَّجَّادُ؛ وَبَدَتْ شُجَيْرَاتُ الْبَيْلَسَانِ وَأَسْيِجَةُ الْوَرْدِ الْبَرِّيِّ كَأَكَالِيلَ عَلَى الْجُدْرَانِ؛ وَلِلِاسْتِحْمَامِ، كَانَ بِإِمْكَانِهِ الْحُصُولُ عَلَى مِيَاهِ الْجَدْوَلِ النَّقِيَّةِ الْمُنْعِشَةِ؛ بَيْنَمَا كَانَتْ نَبَاتَاتُ الْأَسَلِ تُحْنِي رُؤُوسَهَا لَهُ، لِتَتَمَنَّى لَهُ صَبَاحًا وَمَسَاءً طَيِّبَيْنِ.
الْقَمَرُ، كَمِصْبَاحٍ كَبِيرٍ، مُعَلَّقٌ عَالِيًا فِي السَّقْفِ الْأَزْرَقِ، وَلَمْ يَخَفْ مِنْ أَنْ يُشْعِلَ النَّارَ فِي سَتَائِرِهِ. نَامَ يُوحَنَّا هُنَا بِأَمَانٍ تَامٍّ طَوَالَ اللَّيْلِ؛ وَعِنْدَمَا اسْتَيْقَظَ، كَانَتِ الشَّمْسُ قَدْ أَشْرَقَتْ، وَكَانَتْ كُلُّ الطُّيُورِ الصَّغِيرَةِ تُغَنِّي حَوْلَهُ: "صَبَاحُ الْخَيْرِ، صَبَاحُ الْخَيْرِ. أَلَمْ تَسْتَيْقِظْ بَعْدُ؟"
كَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَكَانَتِ الْأَجْرَاسُ تَدُقُّ مُعْلِنَةً عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَةِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ النَّاسُ، تَبِعَهُمْ يُوحَنَّا؛ سَمِعَ كَلِمَةَ اللهِ، وَشَارَكَ فِي تَرْتِيلِ الْمَزَامِيرِ، وَاسْتَمَعَ إِلَى الْوَاعِظِ. بَدَا لَهُ الْأَمْرُ كَأَنَّهُ فِي كَنِيسَتِهِ الْخَاصَّةِ، حَيْثُ تَعَمَّدَ وَرَتَّلَ الْمَزَامِيرَ مَعَ أَبِيهِ.
فِي فِنَاءِ الْكَنِيسَةِ، كَانَتْ هُنَاكَ عِدَّةُ قُبُورٍ، وَعَلَى بَعْضِهَا نَمَا الْعُشْبُ طَوِيلًا جِدًّا. فَكَّرَ يُوحَنَّا فِي قَبْرِ أَبِيهِ، الَّذِي عَلِمَ أَنَّهُ سَيَبْدُو فِي النِّهَايَةِ مِثْلَ هَذِهِ الْقُبُورِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ لِيُزِيلَ الْأَعْشَابَ وَيَعْتَنِيَ بِهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْعَمَلِ، فَقَلَعَ الْعُشْبَ الطَّوِيلَ، وَرَفَعَ الصُّلْبَانَ الْخَشَبِيَّةَ الَّتِي سَقَطَتْ، وَأَعَادَ الْأَكَالِيلَ الَّتِي أَطَاحَتْ بِهَا الرِّيحُ مِنْ أَمَاكِنِهَا، وَهُوَ يُفَكِّرُ طَوَالَ الْوَقْتِ: "رُبَّمَا يَفْعَلُ شَخْصٌ مَا الشَّيْءَ نَفْسَهُ لِقَبْرِ أَبِي، بِمَا أَنَّنِي لَسْتُ هُنَاكَ لِأَفْعَلَهُ."
خَارِجَ بَابِ الْكَنِيسَةِ، وَقَفَ مُتَسَوِّلٌ عَجُوزٌ، يَتَّكِئُ عَلَى عُكَّازِهِ. أَعْطَاهُ يُوحَنَّا شِلِنَاتِهِ الْفِضِّيَّةَ، ثُمَّ وَاصَلَ رِحْلَتَهُ، شَاعِرًا بِخِفَّةٍ وَسَعَادَةٍ أَكْبَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى.
قُبَيْلَ الْمَسَاءِ، أَصْبَحَ الطَّقْسُ عَاصِفًا جِدًّا، فَأَسْرَعَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ لِيَجِدَ مَأْوًى؛ لَكِنَّ الظَّلَامَ كَانَ قَدْ حَلَّ تَمَامًا عِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى كَنِيسَةٍ صَغِيرَةٍ مُنْعَزِلَةٍ تَقِفُ عَلَى تَلٍّ.
قَالَ: "سَأَدْخُلُ هُنَا، وَأَجْلِسُ فِي زَاوِيَةٍ؛ فَأَنَا مُتْعَبٌ جِدًّا، وَأَحْتَاجُ إِلَى الرَّاحَةِ." فَدَخَلَ وَجَلَسَ؛ ثُمَّ ضَمَّ يَدَيْهِ، وَرَفَعَ صَلَاتَهُ الْمَسَائِيَّةَ، وَسُرْعَانَ مَا غَطَّ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ وَأَخَذَ يَحْلُمُ، بَيْنَمَا كَانَ الرَّعْدُ يَدْوِي وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْخَارِجِ.
عِنْدَمَا اسْتَيْقَظَ، كَانَ اللَّيْلُ لَا يَزَالُ مُخَيِّمًا؛ لَكِنَّ الْعَاصِفَةَ كَانَتْ قَدْ هَدَأَتْ، وَالْقَمَرُ يُضِيءُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَالِ النَّوَافِذِ. ثُمَّ رَأَى نَعْشًا مَفْتُوحًا يَقِفُ فِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ، يَحْوِي رَجُلًا مَيِّتًا، يَنْتَظِرُ الدَّفْنَ.
لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا جَبَانًا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ كَانَ ضَمِيرُهُ مُرْتَاحًا، وَكَانَ يَعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ الْمَوْتَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْذُوا أَحَدًا أَبَدًا. الْأَحْيَاءُ الْأَشْرَارُ هُمُ الَّذِينَ يُلْحِقُونَ الْأَذَى بِالْآخَرِينَ. وَقَفَ شَخْصَانِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارِ الْآنَ بِجَانِبِ الرَّجُلِ الْمَيِّتِ، الَّذِي أُحْضِرَ إِلَى الْكَنِيسَةِ لِيُدْفَنَ. كَانَتْ نَوَايَاهُمَا الشِّرِّيرَةُ هِيَ إِلْقَاءُ الْجُثَّةِ الْمِسْكِينَةِ خَارِجَ بَابِ الْكَنِيسَةِ، وَعَدَمُ تَرْكِهَا تَرْقُدُ فِي نَعْشِهَا.
سَأَلَ يُوحَنَّا، عِنْدَمَا رَأَى مَا هُمَا عَلَى وَشْكِ فِعْلِهِ: "لِمَاذَا تَفْعَلَانِ هَذَا؟ إِنَّهُ شِرِّيرٌ جِدًّا. دَعُوهُ يَرْقُدُ فِي سَلَامٍ، بِاسْمِ الْمَسِيحِ."
أَجَابَ الرَّجُلَانِ الْمُخِيفَانِ: "هَرَاءٌ! لَقَدْ خَدَعَنَا؛ كَانَ مَدِينًا لَنَا بِمَالٍ لَمْ يَسْتَطِعْ دَفْعَهُ، وَالْآنَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ لَنْ نَحْصُلَ عَلَى قِرْشٍ وَاحِدٍ؛ لِذَا نَنْوِي الِانْتِقَامَ، وَنَدَعُهُ يَرْقُدُ كَالْكَلْبِ خَارِجَ بَابِ الْكَنِيسَةِ."
قَالَ يُوحَنَّا: "لَيْسَ لَدَيَّ سِوَى خَمْسِينَ دُولَارًا، هَذَا كُلُّ مَا أَمْلِكُهُ فِي الْعَالَمِ، لَكِنِّي سَأُعْطِيهَا لَكُمَا إِذَا وَعَدْتُمَانِي بِصِدْقٍ أَنْ تَتْرُكَا الرَّجُلَ الْمَيِّتَ فِي سَلَامٍ. سَأَتَمَكَّنُ مِنْ تَدَبُّرِ أَمْرِي بِدُونِ الْمَالِ؛ لَدَيَّ أَطْرَافٌ قَوِيَّةٌ وَصَحِيحَةٌ، وَاللهُ سَيُسَاعِدُنِي دَائِمًا."
قَالَ الرَّجُلَانِ الْبَغِيضَانِ: "لِمَا لَا، بِالطَّبْعِ، إِذَا دَفَعْتَ دَيْنَهُ فَسَنَعِدُكَ كِلَانَا بِأَلَّا نَلْمِسَهُ. يُمْكِنُكَ الِاعْتِمَادُ عَلَى ذَلِكَ." ثُمَّ أَخَذَا الْمَالَ الَّذِي قَدَّمَهُ لَهُمَا، وَضَحِكَا مِنْ طِيبَةِ قَلْبِهِ، وَانْصَرَفَا.
ثُمَّ أَعَادَ الْجُثَّةَ إِلَى النَّعْشِ، وَطَوَى يَدَيْهَا، وَوَدَّعَهَا؛ ثُمَّ انْطَلَقَ رَاضِيًا عَبْرَ الْغَابَةِ الْكَبِيرَةِ.
حَوْلَهُ، كَانَ يَرَى أَجْمَلَ الْجِنِّيَّاتِ الصَّغِيرَاتِ يَرْقُصْنَ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ الَّذِي يَتَسَلَّلُ مِنْ خِلَالِ الْأَشْجَارِ. لَمْ يُزْعِجْهُنَّ ظُهُورُهُ، فَقَدْ عَلِمْنَ أَنَّهُ طَيِّبٌ وَمُسَالِمٌ بَيْنَ النَّاسِ. الْأَشْرَارُ فَقَطْ هُمُ الَّذِينَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَبَدًا رُؤْيَةَ الْجِنِّيَّاتِ.
بَعْضُهُنَّ لَمْ يَكُنَّ أَطْوَلَ مِنْ عَرْضِ إِصْبَعٍ، وَكُنَّ يَرْتَدِينَ أَمْشَاطًا ذَهَبِيَّةً فِي شُعُورِهِنَّ الصَّفْرَاءِ الطَّوِيلَةِ. كُنَّ يَتَأَرْجَحْنَ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ عَلَى قَطَرَاتِ النَّدَى الْكَبِيرَةِ الَّتِي تَنَاثَرَتْ عَلَى الْأَوْرَاقِ وَالْعُشْبِ الطَّوِيلِ. أَحْيَانًا تَتَدَحْرَجُ قَطَرَاتُ النَّدَى بَعِيدًا، فَيَسْقُطْنَ بَيْنَ سِيقَانِ الْعُشْبِ الطَّوِيلِ، مِمَّا يُسَبِّبُ الْكَثِيرَ مِنَ الضَّحِكِ وَالضَّوْضَاءِ بَيْنَ الْأَقْوَامِ الصَّغِيرَةِ الْأُخْرَى. كَانَ مُشَاهَدَتُهُنَّ وَهُنَّ يَلْعَبْنَ أَمْرًا سَاحِرًا حَقًّا.
ثُمَّ غَنَّيْنَ الْأَغَانِيَ، وَتَذَكَّرَ يُوحَنَّا أَنَّهُ تَعَلَّمَ تِلْكَ الْأَغَانِيَ الْجَمِيلَةَ عِنْدَمَا كَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا. كَانَتْ عَنَاكِبُ ضَخْمَةٌ مُرَقَّطَةٌ، ذَاتُ تِيجَانٍ فِضِّيَّةٍ عَلَى رُؤُوسِهَا، مَشْغُولَةً بِغَزْلِ جُسُورٍ مُعَلَّقَةٍ وَقُصُورٍ مِنْ سِيَاجٍ إِلَى آخَرَ، وَعِنْدَمَا تَسْقُطُ الْقَطَرَاتُ الصَّغِيرَةُ عَلَيْهَا، تَتَلَأْلَأُ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ كَالزُّجَاجِ اللَّامِعِ. اسْتَمَرَّ هَذَا حَتَّى شُرُوقِ الشَّمْسِ. ثُمَّ زَحَفَتِ الْجِنِّيَّاتُ الصَّغِيرَاتُ إِلَى دَاخِلِ بَرَاعِمِ الزُّهُورِ، وَأَمْسَكَتِ الرِّيحُ بِالْجُسُورِ وَالْقُصُورِ وَطَيَّرَتْهَا فِي الْهَوَاءِ كَخُيُوطِ الْعَنْكَبُوتِ.
عِنْدَمَا غَادَرَ يُوحَنَّا الْغَابَةَ، نَادَاهُ صَوْتُ رَجُلٍ قَوِيٍّ مِنْ خَلْفِهِ: "مَرْحَبًا يَا رَفِيقُ، إِلَى أَيْنَ تُسَافِرُ؟"
أَجَابَ: "إِلَى الْعَالَمِ الْوَاسِعِ. أَنَا مُجَرَّدُ فَتًى فَقِيرٍ، لَيْسَ لِي أَبٌ وَلَا أُمٌّ، لَكِنَّ اللهَ سَيُعِينُنِي."
أَجَابَ الْغَرِيبُ: "أَنَا أَيْضًا ذَاهِبٌ إِلَى الْعَالَمِ الْوَاسِعِ، هَلْ نُرَافِقُ بَعْضَنَا الْبَعْضَ؟"
قَالَ يُوحَنَّا: "بِكُلِّ سُرُورٍ"، وَهَكَذَا انْطَلَقَا مَعًا. سُرْعَانَ مَا بَدَأَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُحِبُّ الْآخَرَ كَثِيرًا، فَقَدْ كَانَا كِلَاهُمَا صَالِحَيْنِ؛ لَكِنَّ يُوحَنَّا اكْتَشَفَ أَنَّ الْغَرِيبَ أَذْكَى مِنْهُ بِكَثِيرٍ. لَقَدْ سَافَرَ فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ، وَكَانَ يَسْتَطِيعُ وَصْفَ كُلِّ شَيْءٍ تَقْرِيبًا.
كَانَتِ الشَّمْسُ عَالِيَةً فِي السَّمَاءِ عِنْدَمَا جَلَسَا تَحْتَ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ لِتَنَاوُلِ إِفْطَارِهِمَا، وَفِي اللَّحْظَةِ نَفْسِهَا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمَا امْرَأَةٌ عَجُوزٌ. كَانَتْ طَاعِنَةً فِي السِّنِّ جِدًّا وَكَادَتْ تَكُونُ مُنْحَنِيَةَ الظَّهْرِ. كَانَتْ تَتَّكِئُ عَلَى عَصًا وَتَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهَا حُزْمَةً مِنْ الْحَطَبِ جَمَعَتْهَا مِنَ الْغَابَةِ؛ كَانَ مِئْزَرُهَا مَرْبُوطًا حَوْلَهَا، وَرَأَى يُوحَنَّا ثَلَاثَ سِيقَانٍ كَبِيرَةٍ مِنَ السَّرْخَسِ وَبَعْضَ أَغْصَانِ الصَّفْصَافِ تَبْرُزُ مِنْهَا.
وَمَا إِنِ اقْتَرَبَتْ مِنْهُمَا حَتَّى زَلَّتْ قَدَمُهَا وَسَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ تَصْرُخُ بِصَوْتٍ عَالٍ؛ الْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ الْمِسْكِينَةُ، لَقَدْ كُسِرَتْ سَاقُهَا!
اقْتَرَحَ يُوحَنَّا عَلَى الْفَوْرِ أَنْ يَحْمِلَا الْمَرْأَةَ الْعَجُوزَ إِلَى مَنْزِلِهَا فِي الْكُوخِ؛ لَكِنَّ الْغَرِيبَ فَتَحَ حَقِيبَةَ ظَهْرِهِ وَأَخْرَجَ عُلْبَةً، قَالَ إِنَّ فِيهَا مَرْهَمًا سَيَجْعَلُ سَاقَهَا سَلِيمَةً وَقَوِيَّةً مَرَّةً أُخْرَى بِسُرْعَةٍ، بِحَيْثُ تَتَمَكَّنُ مِنَ الْمَشْيِ إِلَى مَنْزِلِهَا بِنَفْسِهَا، كَأَنَّ سَاقَهَا لَمْ تُكْسَرْ أَبَدًا. وَكُلُّ مَا سَيَطْلُبُهُ فِي الْمُقَابِلِ هُوَ سِيقَانُ السَّرْخَسِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَحْمِلُهَا فِي مِئْزَرِهَا.
قَالَتِ الْمَرْأَةُ الْعَجُوزُ وَهِيَ تُومِئُ بِرَأْسِهَا بِشَكْلٍ غَرِيبٍ: "هَذَا ثَمَنٌ بَاهِظٌ بَعْضَ الشَّيْءِ." لَمْ تَبْدُ مُطْلَقًا مَيَّالَةً لِلتَّخَلِّي عَنْ سِيقَانِ السَّرْخَسِ. وَمَعَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُمْتِعِ أَنْ تَظَلَّ مُلْقَاةً هُنَاكَ بِسَاقٍ مَكْسُورَةٍ، فَأَعْطَتْهَا لَهُ؛ وَكَانَتْ قُوَّةُ الْمَرْهَمِ عَظِيمَةً لِدَرَجَةِ أَنَّهُ مَا إِنْ دَهَنَ سَاقَهَا بِهِ حَتَّى نَهَضَتِ الْأُمُّ الْعَجُوزُ وَمَشَتْ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَتْ تَفْعَلُ مِنْ قَبْلُ. وَلَكِنْ، لَمْ يَكُنْ بِالْإِمْكَانِ شِرَاءُ هَذَا الْمَرْهَمِ الْعَجِيبِ مِنَ الصَّيْدَلِيَّةِ.
سَأَلَ يُوحَنَّا رَفِيقَ سَفَرِهِ: "مَاذَا تُرِيدُ بِعِيدَانِ السَّرْخَسِ الثَّلَاثَةِ تِلْكَ؟"
أَجَابَ: "أَوْه، سَتُصْنَعُ مِنْهَا مَكَانِسُ رَائِعَةٌ، وَأَنَا أُحِبُّهَا لِأَنَّ لَدَيَّ أَهْوَاءً غَرِيبَةً أَحْيَانًا."
ثُمَّ سَارَا مَعًا لِمَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ.
قَالَ يُوحَنَّا: "كَمْ أَصْبَحَتِ السَّمَاءُ مُظْلِمَةً! وَانْظُرْ إِلَى تِلْكَ الْغُيُومِ الْكَثِيفَةِ الثَّقِيلَةِ."
أَجَابَ رَفِيقُ سَفَرِهِ: "تِلْكَ لَيْسَتْ غُيُومًا؛ إِنَّهَا جِبَالٌ — جِبَالٌ ضَخْمَةٌ شَاهِقَةٌ — عَلَى قِمَمِهَا سَنَكُونُ فَوْقَ الْغُيُومِ، فِي الْهَوَاءِ النَّقِيِّ الطَّلِيقِ. صَدِّقْنِي، إِنَّهُ لَأَمْرٌ رَائِعٌ أَنْ تَصْعَدَ إِلَى هَذَا الِارْتِفَاعِ، غَدًا سَنَكُونُ هُنَاكَ."
لَكِنَّ الْجِبَالَ لَمْ تَكُنْ قَرِيبَةً كَمَا بَدَتْ؛ كَانَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُسَافِرَا يَوْمًا كَامِلًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَا إِلَيْهَا، وَأَنْ يَمُرَّا عَبْرَ غَابَاتٍ سَوْدَاءَ وَأَكْوَامٍ مِنَ الصُّخُورِ بِحَجْمِ مَدِينَةٍ.
كَانَتِ الرِّحْلَةُ مُرْهِقَةً لِدَرَجَةِ أَنَّ يُوحَنَّا وَرَفِيقَ سَفَرِهِ تَوَقَّفَا لِلرَّاحَةِ فِي حَانَةٍ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، لِكَيْ يَسْتَعِيدَا قُوَّتَهُمَا لِرِحْلَتِهِمَا فِي الْغَدِ.
فِي الْقَاعَةِ الْعَامَّةِ الْكَبِيرَةِ لِلْحَانَةِ، تَجَمَّعَ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ الْأَشْخَاصِ لِمُشَاهَدَةِ مَسْرَحِيَّةٍ تُقَدِّمُهَا الدُّمَى. كَانَ مُقَدِّمُ الْعَرْضِ قَدْ أَقَامَ لِلتَّوِّ مَسْرَحَهُ الصَّغِيرَ، وَكَانَ النَّاسُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ الْغُرْفَةِ لِمُشَاهَدَةِ الْأَدَاءِ. فِي الْأَمَامِ مُبَاشَرَةً، فِي أَفْضَلِ مَكَانٍ، جَلَسَ جَزَّارٌ بَدِينٌ، وَبِجَانِبِهِ كَلْبٌ ضَخْمٌ مِنْ فصيلَةِ "بُولْدُوغ" بَدَا مَيَّالًا جِدًّا لِلْعَضِّ. جَلَسَ يُحَدِّقُ بِكُلِّ عَيْنَيْهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ كُلُّ شَخْصٍ آخَرَ فِي الْغُرْفَةِ.
ثُمَّ بَدَأَتِ الْمَسْرَحِيَّةُ. كَانَتْ قِطْعَةً جَمِيلَةً، فِيهَا مَلِكٌ وَمَلِكَةٌ يَجْلِسَانِ عَلَى عَرْشٍ جَمِيلٍ، وَيَرْتَدِيَانِ تِيجَانًا ذَهَبِيَّةً عَلَى رُؤُوسِهِمَا. كَانَتْ أَذْيَالُ فَسَاتِينِهِمَا طَوِيلَةً جِدًّا، وَفْقًا لِلْمُوضَةِ؛ بَيْنَمَا وَقَفَتْ أَجْمَلُ الدُّمَى الْخَشَبِيَّةِ، ذَاتُ الْعُيُونِ الزُّجَاجِيَّةِ وَالشَّوَارِبِ الْكَبِيرَةِ، عِنْدَ الْأَبْوَابِ، تَفْتَحُهَا وَتُغْلِقُهَا لِيَدْخُلَ الْهَوَاءُ النَّقِيُّ إِلَى الْغُرْفَةِ.
كَانَتْ مَسْرَحِيَّةً مُسَلِّيَةً جِدًّا، وَلَيْسَتْ حَزِينَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ وَلَكِنْ مَا إِنْ وَقَفَتِ الْمَلِكَةُ وَسَارَتْ عَبْرَ الْمِنَصَّةِ، حَتَّى قَفَزَ الْكَلْبُ الْبُولْدُوغُ الضَّخْمُ، الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ يُمْسِكَهُ صَاحِبُهُ، وَأَمْسَكَ الْمَلِكَةَ بِأَسْنَانِهِ مِنْ مِعْصَمِهَا النَّحِيلِ، فَانْكَسَرَ إِلَى نِصْفَيْنِ. كَانَتْ هَذِهِ كَارِثَةً مُرَوِّعَةً.
الرَّجُلُ الْمِسْكِينُ، الَّذِي كَانَ يَعْرِضُ الدُّمَى، انْزَعَجَ كَثِيرًا وَحَزِنَ عَلَى مَلِكَتِهِ؛ فَقَدْ كَانَتْ أَجْمَلَ دُمْيَةٍ لَدَيْهِ، وَالْكَلْبُ الْبُولْدُوغُ حَطَّمَ رَأْسَهَا وَكَتِفَيْهَا. لَكِنْ بَعْدَ أَنْ غَادَرَ جَمِيعُ النَّاسِ، قَالَ الْغَرِيبُ، الَّذِي جَاءَ مَعَ يُوحَنَّا، إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ إِصْلَاحَهَا سَرِيعًا. ثُمَّ أَخْرَجَ عُلْبَتَهُ وَدَهَنَ الدُّمْيَةَ بِبَعْضِ الْمَرْهَمِ الَّذِي عَالَجَ بِهِ الْمَرْأَةَ الْعَجُوزَ عِنْدَمَا كُسِرَتْ سَاقُهَا.
مَا إِنْ تَمَّ ذَلِكَ حَتَّى عَادَ ظَهْرُ الدُّمْيَةِ سَلِيمًا تَمَامًا؛ ثُبِّتَ رَأْسُهَا وَكَتِفَاهَا، وَأَصْبَحَتْ تَسْتَطِيعُ حَتَّى تَحْرِيكَ أَطْرَافِهَا بِنَفْسِهَا: لَمْ تَعُدْ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِسَحْبِ الْخُيُوطِ، فَقَدْ تَصَرَّفَتِ الدُّمْيَةُ كَمَخْلُوقٍ حَيٍّ تَمَامًا، بِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ الْكَلَامَ. الرَّجُلُ الَّذِي يَمْلِكُ الْعَرْضَ سُرَّ كَثِيرًا بِأَنْ أَصْبَحَتْ لَدَيْهِ دُمْيَةٌ تَسْتَطِيعُ الرَّقْصَ بِنَفْسِهَا دُونَ أَنْ تُسْحَبَ بِالْخُيُوطِ؛ لَمْ تَسْتَطِعْ أَيٌّ مِنَ الدُّمَى الْأُخْرَى فِعْلَ ذَلِكَ.
أَثْنَاءَ اللَّيْلِ، عِنْدَمَا ذَهَبَ جَمِيعُ النَّاسِ فِي الْحَانَةِ إِلَى أَسِرَّتِهِمْ، سُمِعَ شَخْصٌ مَا يَتَنَهَّدُ بِعُمْقٍ وَأَلَمٍ شَدِيدَيْنِ، وَاسْتَمَرَّ التَّنَهُّدُ لِوَقْتٍ طَوِيلٍ جِدًّا، حَتَّى نَهَضَ الْجَمِيعُ لِيَرَوْا مَا الْأَمْرُ. ذَهَبَ مُقَدِّمُ الْعَرْضِ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى مَسْرَحِهِ الصَّغِيرِ فَوَجَدَ أَنَّ الصَّوْتَ صَادِرٌ مِنَ الدُّمَى، الَّتِي كَانَتْ كُلُّهَا مُلْقَاةً عَلَى الْأَرْضِ تَتَنَهَّدُ بِشَكْلٍ يُثِيرُ الشَّفَقَةَ، وَتُحَدِّقُ بِعُيُونِهَا الزُّجَاجِيَّةِ؛ كَانَتْ كُلُّهَا تُرِيدُ أَنْ تُدْهَنَ بِالْمَرْهَمِ، حَتَّى تَتَمَكَّنَ، مِثْلَ الْمَلِكَةِ، مِنْ أَنْ تَتَحَرَّكَ بِنَفْسِهَا.
أَلْقَتِ الْمَلِكَةُ بِنَفْسِهَا عَلَى رُكْبَتَيْهَا، وَخَلَعَتْ تَاجَهَا الْجَمِيلَ، وَأَمْسَكَتْهُ بِيَدِهَا، وَصَرَخَتْ: "خُذْ هَذَا مِنِّي، وَلَكِنْ ادْهَنْ زَوْجِي وَحَاشِيَتَهُ." الرَّجُلُ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَمْلِكُ الْمَسْرَحَ كَادَ لَا يَتَمَالَكُ مِنَ الْبُكَاءِ؛ كَانَ آسِفًا جِدًّا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ مُسَاعَدَتَهُمْ. ثُمَّ تَحَدَّثَ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى رَفِيقِ يُوحَنَّا، وَوَعَدَهُ بِكُلِّ الْمَالِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ عَلَيْهِ فِي عَرْضِ مَسَاءِ الْيَوْمِ التَّالِي، إِذَا هُوَ فَقَطْ دَهَنَ أَرْبَعَ أَوْ خَمْسَ دُمىً مِنْ دُمَاهُ بِالْمَرْهَمِ.
لَكِنَّ رَفِيقَ السَّفَرِ قَالَ إِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ فِي الْمُقَابِلِ، بِاسْتِثْنَاءِ السَّيْفِ الَّذِي كَانَ مُقَدِّمُ الْعَرْضِ يَرْتَدِيهِ بِجَانِبِهِ. مَا إِنْ تَسَلَّمَ السَّيْفَ حَتَّى دَهَنَ سِتَّ دُمىً بِالْمَرْهَمِ، وَأَصْبَحَتْ قَادِرَةً عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الرَّقْصِ بِرَشَاقَةٍ بَالِغَةٍ لِدَرَجَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْفَتَيَاتِ الْأَحْيَاءِ فِي الْغُرْفَةِ لَمْ يَسْتَطِعْنَ إِلَّا مُشَارَكَتَهُنَّ فِي الرَّقْصِ. رَقَصَ سَائِقُ الْعَرَبَةِ مَعَ الطَّبَّاخَةِ، وَالنُّدُلُ مَعَ الْخَادِمَاتِ، وَانْضَمَّ جَمِيعُ الْغُرَبَاءِ؛ حَتَّى الْمَلْقَطُ وَالْمِجْرَفَةُ حَاوَلَا، لَكِنَّهُمَا سَقَطَا بَعْدَ الْقَفْزَةِ الْأُولَى. وَهَكَذَا، بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، كَانَتْ لَيْلَةً مَرِحَةً جِدًّا.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، غَادَرَ يُوحَنَّا وَرَفِيقُهُ الْحَانَةَ لِمُوَاصَلَةِ رِحْلَتِهِمَا عَبْرَ غَابَاتِ الصَّنَوْبَرِ الْكَبِيرَةِ وَفَوْقَ الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ. وَصَلَا أَخِيرًا إِلَى ارْتِفَاعٍ شَاهِقٍ لِدَرَجَةِ أَنَّ الْمُدُنَ وَالْقُرَى بَدَتْ تَحْتَهُمَا، وَأَبْرَاجَ الْكَنَائِسِ بَدَتْ كَنُقَطٍ صَغِيرَةٍ بَيْنَ الْأَشْجَارِ الْخَضْرَاءِ. كَانَا يَرَيَانِ لِأَمْيَالٍ حَوْلَهُمَا، أَمَاكِنَ بَعِيدَةً لَمْ يَزُورَاهَا مِنْ قَبْلُ، وَرَأَى يُوحَنَّا مِنَ الْعَالَمِ الْجَمِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا عَرَفَهُ مِنْ قَبْلُ.
أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ بِضِيَاءٍ فِي السَّمَاءِ الزَّرْقَاءِ الْوَاسِعَةِ، وَمِنْ خِلَالِ هَوَاءِ الْجَبَلِ النَّقِيِّ جَاءَ صَوْتُ بُوقِ الصَّيَّادِ، فَجَلَبَتِ الْأَنْغَامُ النَّاعِمَةُ الْعَذْبَةُ الدُّمُوعَ إِلَى عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا أَنْ يَهْتِفَ: "كَمْ هُوَ اللهُ صَالِحٌ وَمُحِبٌّ لِيُعْطِيَنَا كُلَّ هَذَا الْجَمَالِ وَالرَّوْعَةِ فِي الْعَالَمِ لِيَجْعَلَنَا سُعَدَاءَ!"
وَقَفَ رَفِيقُ سَفَرِهِ بِجَانِبِهِ مَكْتُوفَ الْيَدَيْنِ، يُحَدِّقُ فِي الْغَابَةِ الْمُظْلِمَةِ وَالْمُدُنِ الَّتِي تَغْمُرُهَا أَشِعَّةُ الشَّمْسِ الدَّافِئَةِ. فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، دَوَّتْ فَوْقَ رُؤُوسِهِمَا مُوسِيقَى عَذْبَةٌ. نَظَرَا إِلَى الْأَعْلَى، فَاكْتَشَفَا بَجْعَةً بَيْضَاءَ كَبِيرَةً تُحَوِّمُ فِي الْهَوَاءِ، وَتُغَنِّي كَمَا لَمْ يُغَنِّ طَائِرٌ مِنْ قَبْلُ. لَكِنَّ الْأُغْنِيَةَ سُرْعَانَ مَا أَصْبَحَتْ أَضْعَفَ فَأَضْعَفَ، وَانْحَنَى رَأْسُ الطَّائِرِ، وَسَقَطَ بِبُطْءٍ، وَاسْتَلْقَى مَيِّتًا عِنْدَ أَقْدَامِهِمَا.
قَالَ الْمُسَافِرُ: "إِنَّهُ طَائِرٌ جَمِيلٌ، وَهَذِهِ الْأَجْنِحَةُ الْبَيْضَاءُ الْكَبِيرَةُ تُسَاوِي الْكَثِيرَ مِنَ الْمَالِ. سَآخُذُهَا مَعِي. تَرَى الْآنَ أَنَّ السَّيْفَ سَيَكُونُ مُفِيدًا جِدًّا." فَقَطَعَ أَجْنِحَةَ الْبَجْعَةِ الْمَيِّتَةِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَحَمَلَهَا مَعَهُ.
وَاصَلَا الْآنَ رِحْلَتَهُمَا عَبْرَ الْجِبَالِ لِأَمْيَالٍ عَدِيدَةٍ، حَتَّى وَصَلَا أَخِيرًا إِلَى مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ، تَحْتَوِي عَلَى مِئَاتِ الْأَبْرَاجِ الَّتِي تَلْمَعُ فِي أَشِعَّةِ الشَّمْسِ كَالْفِضَّةِ. وَفِي وَسَطِ الْمَدِينَةِ، يَقِفُ قَصْرٌ رُخَامِيٌّ فَخْمٌ، سَقْفُهُ مِنْ ذَهَبٍ أَحْمَرَ خَالِصٍ، يَسْكُنُ فِيهِ الْمَلِكُ.
لَمْ يَدْخُلْ يُوحَنَّا وَرَفِيقُهُ الْمَدِينَةَ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِذَا تَوَقَّفَا فِي حَانَةٍ خَارِجَ الْمَدِينَةِ لِتَغْيِيرِ مَلَابِسِهِمَا؛ فَقَدْ كَانَا يَرْغَبَانِ فِي الظُّهُورِ بِمَظْهَرٍ لَائِقٍ وَهُمَا يَسِيرَانِ فِي الشَّوَارِعِ. أَخْبَرَهُمَا صَاحِبُ الْحَانَةِ أَنَّ الْمَلِكَ رَجُلٌ طَيِّبٌ جِدًّا، لَا يُؤْذِي أَحَدًا أَبَدًا: أَمَّا ابْنَتُهُ، "فَلْيَحْمِنَا اللهُ!"
لَقَدْ كَانَتْ بِالْفِعْلِ أَمِيرَةً شِرِّيرَةً. كَانَتْ تَمْتَلِكُ جَمَالًا كَافِيًا — لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ أَكْثَرَ أَنَاقَةً أَوْ جَمَالًا مِنْهَا؛ وَلَكِنْ مَا فَائِدَةُ ذَلِكَ؟ فَقَدْ كَانَتْ سَاحِرَةً شِرِّيرَةً؛ وَنَتِيجَةً لِسُلُوكِهَا، فَقَدَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأُمَرَاءِ الشُّبَّانِ النُّبَلَاءِ حَيَاتَهُمْ.
كَانَ يَحِقُّ لِأَيِّ شَخْصٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ لِخِطْبَتِهَا؛ سَوَاءٌ كَانَ أَمِيرًا أَوْ مُتَسَوِّلًا، لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ يُهِمُّهَا. كَانَتْ تَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُخَمِّنَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فَكَّرَتْ فِيهَا لِلتَّوِّ، وَإِذَا نَجَحَ، كَانَ سَيَتَزَوَّجُهَا، وَيُصْبِحُ مَلِكًا عَلَى كُلِّ الْأَرْضِ عِنْدَمَا يَمُوتُ أَبُوهَا؛ وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ تَخْمِينَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهَا تَأْمُرُ بِشَنْقِهِ أَوْ بِقَطْعِ رَأْسِهِ.
الْمَلِكُ الْعَجُوزُ، أَبُوهَا، كَانَ حَزِينًا جِدًّا بِسَبَبِ سُلُوكِهَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ مَنْعَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ شِرِّيرَةً لِهَذِهِ الدَّرَجَةِ، لِأَنَّهُ قَالَ ذَاتَ مَرَّةٍ إِنَّهُ لَنْ يَتَدَخَّلَ فِي أُمُورِ عُشَّاقِهَا بَعْدَ الْآنَ؛ يُمْكِنُهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا تَشَاءُ.
كُلُّ أَمِيرٍ جَاءَ وَحَاوَلَ تَخْمِينَ الْأَحَاجِيِّ الثَّلَاثِ، لِكَيْ يَتَزَوَّجَ الْأَمِيرَةَ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهَا، وَتَمَّ شَنْقُهُ أَوْ قَطْعُ رَأْسِهِ. لَقَدْ تَمَّ تَحْذِيرُهُمْ جَمِيعًا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، وَكَانَ بِإِمْكَانِهِمْ تَرْكُهَا وَشَأْنَهَا، لَوْ أَرَادُوا.
أَصْبَحَ الْمَلِكُ الْعَجُوزُ فِي النِّهَايَةِ مُنْزَعِجًا جِدًّا مِنْ كُلِّ هَذِهِ الظُّرُوفِ الْمُرَوِّعَةِ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لِيَوْمٍ كَامِلٍ كُلَّ عَامٍ كَانَ هُوَ وَجُنُودُهُ يَرْكَعُونَ وَيُصَلُّونَ لِكَيْ تُصْبِحَ الْأَمِيرَةُ صَالِحَةً؛ لَكِنَّهَا ظَلَّتْ شِرِّيرَةً كَمَا كَانَتْ دَائِمًا. النِّسَاءُ الْعَجَائِزُ اللَّوَاتِي كُنَّ يَشْرَبْنَ الْبِرَانْدِي كُنَّ يُلَوِّنَّهُ بِاللَّوْنِ الْأَسْوَدِ الْقَاتِمِ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبْنَهُ، لِيُظْهِرْنَ مَدَى حُزْنِهِنَّ؛ وَمَاذَا كَانَ بِإِمْكَانِهِنَّ أَنْ يَفْعَلْنَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؟
قَالَ يُوحَنَّا: "يَا لَهَا مِنْ أَمِيرَةٍ مُرْعِبَةٍ! يَجِبُ أَنْ تُجْلَدَ جَيِّدًا. لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَلِكَ الْعَجُوزَ، لَعَاقَبْتُهَا بِطَرِيقَةٍ مَا."
فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، سَمِعُوا النَّاسَ فِي الْخَارِجِ يَهْتِفُونَ: "هُورَاي!" وَنَظَرُوا إِلَى الْخَارِجِ، فَرَأَوُا الْأَمِيرَةَ تَمُرُّ؛ وَكَانَتْ جَمِيلَةً حَقًّا لِدَرَجَةِ أَنَّ الْجَمِيعَ نَسُوا شَرَّهَا، وَهَتَفُوا "هُورَاي!"
اثْنَتَا عَشْرَةَ فَتَاةً جَمِيلَةً يَرْتَدِينَ فَسَاتِينَ حَرِيرِيَّةً بَيْضَاءَ، وَيَحْمِلْنَ زُهُورَ الْخُزَامَى الذَّهَبِيَّةَ فِي أَيْدِيهِنَّ، رَكِبْنَ بِجَانِبِهَا عَلَى خُيُولٍ سَوْدَاءَ كَالْفَحْمِ. الْأَمِيرَةُ نَفْسُهَا كَانَتْ تَمْتَطِي جَوَادًا أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ، مُزَيَّنًا بِالْأَلْمَاسِ وَالْيَاقُوتِ. كَانَ فُسْتَانُهَا مِنْ قُمَاشِ الذَّهَبِ، وَالسَّوْطُ الَّذِي أَمْسَكَتْهُ بِيَدِهَا بَدَا كَشُعَاعِ شَمْسٍ. التَّاجُ الذَّهَبِيُّ عَلَى رَأْسِهَا تَلَأْلَأَ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، وَعَبَاءَتُهَا تَكَوَّنَتْ مِنْ آلَافِ أَجْنِحَةِ الْفَرَاشَاتِ الْمُخَاطَةِ مَعًا. وَمَعَ ذَلِكَ، كَانَتْ هِيَ نَفْسُهَا أَجْمَلَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ.
عِنْدَمَا رَآهَا يُوحَنَّا، أَصْبَحَ وَجْهُهُ أَحْمَرَ كَقَطْرَةِ دَمٍ، وَكَادَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ. بَدَتِ الْأَمِيرَةُ تَمَامًا كَالسَّيِّدَةِ الْجَمِيلَةِ ذَاتِ التَّاجِ الذَّهَبِيِّ، الَّتِي حَلَمَ بِهَا فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا أَبُوهُ. بَدَتْ لَهُ جَمِيلَةً جِدًّا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ إِلَّا أَنْ يُحِبَّهَا.
فَكَّرَ قَائِلًا: "لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَنَّهَا سَاحِرَةٌ شِرِّيرَةٌ حَقًّا، تَأْمُرُ بِشَنْقِ النَّاسِ أَوْ قَطْعِ رُؤُوسِهِمْ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَخْمِينَ أَفْكَارِهَا. يُسْمَحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَذْهَبَ وَيَطْلُبَ يَدَهَا، حَتَّى أَفْقَرُ مُتَسَوِّلٍ. سَأَقُومُ بِزِيَارَةٍ لِلْقَصْرِ." قَالَ: "يَجِبُ أَنْ أَذْهَبَ، فَأَنَا لَا أَسْتَطِيعُ مُقَاوَمَةَ ذَلِكَ."
ثُمَّ نَصَحَهُ الْجَمِيعُ بِأَلَّا يُحَاوِلَ؛ فَإِنَّهُ بِالتَّأْكِيدِ سَيَلْقَى نَفْسَ مَصِيرِ الْبَقِيَّةِ. حَاوَلَ رَفِيقُ سَفَرِهِ أَيْضًا إِقْنَاعَهُ بِعَدَمِ الْقِيَامِ بِذَلِكَ؛ لَكِنَّ يُوحَنَّا بَدَا وَاثِقًا تَمَامًا مِنَ النَّجَاحِ. قَامَ بِتَلْمِيعِ حِذَائِهِ وَمِعْطَفِهِ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَشَّطَ شَعْرَهُ الْكَتَّانِيَّ النَّاعِمَ، ثُمَّ خَرَجَ وَحْدَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَسَارَ إِلَى الْقَصْرِ.
قَالَ الْمَلِكُ عِنْدَمَا طَرَقَ يُوحَنَّا الْبَابَ: "ادْخُلْ." فَتَحَ يُوحَنَّا الْبَابَ، فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ الْمَلِكُ الْعَجُوزُ، مُرْتَدِيًا رِدَاءَ نَوْمٍ وَخُفَّيْنِ مُطَرَّزَيْنِ. كَانَ التَّاجُ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَحْمِلُ صَوْلَجَانَهُ فِي إِحْدَى يَدَيْهِ، وَالْكُرَةَ الْمَلَكِيَّةَ فِي الْأُخْرَى. قَالَ: "انْتَظِرْ قَلِيلًا"، وَوَضَعَ الْكُرَةَ الْمَلَكِيَّةَ تَحْتَ إِبْطِهِ، حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ تَقْدِيمِ يَدِهِ الْأُخْرَى لِيُوحَنَّا؛ لَكِنْ عِنْدَمَا اكْتَشَفَ أَنَّ يُوحَنَّا خَاطِبٌ آخَرُ، بَدَأَ فِي الْبُكَاءِ بِعُنْفٍ شَدِيدٍ، حَتَّى سَقَطَ الصَّوْلَجَانُ وَالْكُرَةُ الْمَلَكِيَّةُ عَلَى الْأَرْضِ، وَاضْطُرَّ إِلَى مَسْحِ عَيْنَيْهِ بِرِدَاءِ نَوْمِهِ. الْمَلِكُ الْعَجُوزُ الْمِسْكِينُ!
قَالَ: "اتْرُكْهَا وَشَأْنَهَا. سَيَكُونُ مَصِيرُكَ سَيِّئًا مِثْلَ جَمِيعِ الْآخَرِينَ. تَعَالَ، سَأُرِيكَ."
ثُمَّ قَادَهُ إِلَى حَدَائِقِ الْأَمِيرَةِ الْخَاصَّةِ، وَهُنَاكَ رَأَى مَنْظَرًا مُرَوِّعًا. عَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ كَانَ مُعَلَّقًا ثَلَاثَةُ أَوْ أَرْبَعَةُ أَبْنَاءِ مُلُوكٍ خَطَبُوا الْأَمِيرَةَ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَخْمِينِ الْأَحَاجِيِّ الَّتِي أَعْطَتْهُمْ إِيَّاهَا. كَانَتْ هَيَاكِلُهُمْ الْعَظْمِيَّةُ تَصْطَكُّ مَعَ كُلِّ نَسِيمٍ، حَتَّى أَنَّ الطُّيُورَ الْمُرْتَعِبَةَ لَمْ تَجْرُؤْ أَبَدًا عَلَى الْمُخَاطَرَةِ بِالدُّخُولِ إِلَى الْحَدِيقَةِ. كَانَتْ جَمِيعُ الزُّهُورِ مَدْعُومَةً بِعِظَامِ بَشَرٍ بَدَلًا مِنَ الْعِصِيِّ، وَجَمَاجِمُ الْبَشَرِ فِي أَصْصِ الزُّهُورِ تَبْتَسِمُ بِشَكْلٍ مُرْعِبٍ. كَانَتْ حَقًّا حَدِيقَةً كَئِيبَةً لِأَمِيرَةٍ.
قَالَ الْمَلِكُ الْعَجُوزُ: "أَتَرَى كُلَّ هَذَا؟ سَيَكُونُ مَصِيرُكَ مِثْلَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هُنَا، لِذَا لَا تُحَاوِلْ. أَنْتَ حَقًّا تَجْعَلُنِي تَعِيسًا جِدًّا — أَنَا آخُذُ هَذِهِ الْأُمُورَ عَلَى مَحْمَلِ الْجِدِّ كَثِيرًا."
قَبَّلَ يُوحَنَّا يَدَ الْمَلِكِ الْعَجُوزِ الطَّيِّبِ، وَقَالَ إِنَّهُ مُتَأَكِّدٌ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَيَكُونُ عَلَى مَا يُرَامُ، فَقَدْ كَانَ مَفْتُونًا بِالْأَمِيرَةِ الْجَمِيلَةِ.
ثُمَّ جَاءَتِ الْأَمِيرَةُ نَفْسُهَا رَاكِبَةً إِلَى سَاحَةِ الْقَصْرِ مَعَ جَمِيعِ سَيِّدَاتِهَا، فَتَمَنَّى لَهَا "صَبَاحَ الْخَيْرِ." بَدَتْ رَائِعَةَ الْجَمَالِ وَمُحَبَّبَةً عِنْدَمَا قَدَّمَتْ يَدَهَا لِيُوحَنَّا، فَأَحَبَّهَا أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى. كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سَاحِرَةً شِرِّيرَةً، كَمَا أَكَّدَ جَمِيعُ النَّاسِ؟
رَافَقَهَا إِلَى الْقَاعَةِ، وَقَدَّمَ لَهُمَا الْخَدَمُ الصِّغَارُ كَعْكَ الزَّنْجَبِيلِ وَالْحَلَوِيَّاتِ، لَكِنَّ الْمَلِكَ الْعَجُوزَ كَانَ تَعِيسًا جِدًّا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَأْكُلَ شَيْئًا، وَعَلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ، كَانَ كَعْكُ الزَّنْجَبِيلِ قَاسِيًا جِدًّا عَلَيْهِ.
تَقَرَّرَ أَنْ يَأْتِيَ يُوحَنَّا إِلَى الْقَصْرِ فِي الْيَوْمِ التَّالِي، عِنْدَمَا سَيَكُونُ الْقُضَاةُ وَجَمِيعُ الْمُسْتَشَارِينَ حَاضِرِينَ، لِيُحَاوِلَ مَا إِذَا كَانَ بِإِمْكَانِهِ تَخْمِينُ الْأُحْجِيَّةِ الْأُولَى. إِذَا نَجَحَ، سَيَضْطَرُّ لِلْمَجِيءِ مَرَّةً ثَانِيَةً؛ وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَنْجَحْ، فَسَيَفْقِدُ حَيَاتَهُ — وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ أَبَدًا مِنْ تَخْمِينِ وَاحِدَةٍ حَتَّى.
وَمَعَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَلِقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ بِشَأْنِ نَتِيجَةِ مُحَاكَمَتِهِ؛ عَلَى الْعَكْسِ، كَانَ مَرِحًا جِدًّا. لَمْ يُفَكِّرْ إِلَّا فِي الْأَمِيرَةِ الْجَمِيلَةِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ بِطَرِيقَةٍ مَا سَيَحْصُلُ عَلَى الْمُسَاعَدَةِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ، وَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يُفَكِّرَ فِي الْأَمْرِ؛ لِذَا رَقَصَ عَلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ وَهُوَ يَعُودُ إِلَى الْحَانَةِ، حَيْثُ تَرَكَ رَفِيقَ سَفَرِهِ يَنْتَظِرُهُ.
لَمْ يَسْتَطِعْ يُوحَنَّا الامْتِنَاعَ عَنْ إِخْبَارِهِ كَمْ كَانَتِ الْأَمِيرَةُ لَطِيفَةً، وَكَمْ بَدَتْ جَمِيلَةً. كَانَ يَتُوقُ إِلَى الْيَوْمِ التَّالِي بِشِدَّةٍ، لِيَذْهَبَ إِلَى الْقَصْرِ وَيُجَرِّبَ حَظَّهُ فِي تَخْمِينِ الْأَحَاجِيِّ.
لَكِنَّ رَفِيقَهُ هَزَّ رَأْسَهُ، وَبَدَا حَزِينًا جِدًّا. قَالَ: "أَتَمَنَّى لَكَ التَّوْفِيقَ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. كُنَّا سَنَسْتَمِرُّ مَعًا لِوَقْتٍ أَطْوَلَ، وَالْآنَ مِنْ الْمُحْتَمَلِ أَنْ أَفْقِدَكَ؛ أَنْتَ يَا يُوحَنَّا الْعَزِيزَ الْمِسْكِينَ! أَسْتَطِيعُ أَنْ أَذْرِفَ الدُّمُوعَ، لَكِنِّي لَنْ أَجْعَلَكَ تَعِيسًا فِي آخِرِ لَيْلَةٍ قَدْ نَقْضِيهَا مَعًا. سَنَكُونُ مَرِحِينَ، مَرِحِينَ حَقًّا هَذَا الْمَسَاءَ؛ غَدًا، بَعْدَ أَنْ تَذْهَبَ، سَأَتَمَكَّنُ مِنَ الْبُكَاءِ دُونَ إِزْعَاجٍ."
سُرْعَانَ مَا عَرَفَ سُكَّانُ الْمَدِينَةِ أَنَّ خَاطِبًا آخَرَ قَدْ وَصَلَ لِلْأَمِيرَةِ، وَسَادَ حُزْنٌ كَبِيرٌ نَتِيجَةً لِذَلِكَ. ظَلَّ الْمَسْرَحُ مُغْلَقًا، وَرَبَطَتِ النِّسَاءُ اللَّوَاتِي يَبِعْنَ الْحَلَوِيَّاتِ شَرَائِطَ الْحِدَادِ حَوْلَ أَعْوَادِ السُّكَّرِ، وَكَانَ الْمَلِكُ وَالْكَهَنَةُ يَرْكَعُونَ فِي الْكَنِيسَةِ. كَانَ هُنَاكَ نَحِيبٌ عَظِيمٌ، فَلَمْ يَتَوَقَّعْ أَحَدٌ أَنْ يَنْجَحَ يُوحَنَّا أَفْضَلَ مِمَّنْ سَبَقُوهُ مِنَ الْخُطَّابِ.
فِي الْمَسَاءِ، أَعَدَّ رَفِيقُ يُوحَنَّا وِعَاءً كَبِيرًا مِنْ شَرَابِ الْفَاكِهَةِ الْمَخْلُوطِ، وَقَالَ: "الْآنَ لِنَكُنْ مَرِحِينَ، وَنَشْرَبْ فِي صِحَّةِ الْأَمِيرَةِ." لَكِنْ بَعْدَ شُرْبِ كَأْسَيْنِ، أَصْبَحَ يُوحَنَّا نَعْسَانًا جِدًّا، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ إِبْقَاءَ عَيْنَيْهِ مَفْتُوحَتَيْنِ، وَغَطَّ فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ.
ثُمَّ رَفَعَهُ رَفِيقُ سَفَرِهِ بِرِفْقٍ مِنْ كُرْسِيِّهِ وَوَضَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ؛ وَمَا إِنْ حَلَّ الظَّلَامُ الدَّامِسُ، أَخَذَ الْجَنَاحَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَطَعَهُمَا مِنَ الْبَجْعَةِ الْمَيِّتَةِ، وَرَبَطَهُمَا بِإِحْكَامٍ عَلَى كَتِفَيْهِ. ثُمَّ وَضَعَ فِي جَيْبِهِ أَكْبَرَ الْعِصِيِّ الثَّلَاثِ الَّتِي حَصَلَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَرْأَةِ الْعَجُوزِ الَّتِي سَقَطَتْ وَكُسِرَتْ سَاقُهَا. بَعْدَ ذَلِكَ، فَتَحَ النَّافِذَةَ، وَطَارَ فَوْقَ الْمَدِينَةِ، مُتَّجِهًا مُبَاشَرَةً نَحْوَ الْقَصْرِ، وَجَلَسَ فِي زَاوِيَةٍ، تَحْتَ النَّافِذَةِ الَّتِي تُطِلُّ عَلَى غُرْفَةِ نَوْمِ الْأَمِيرَةِ.
كَانَتِ الْمَدِينَةُ هَادِئَةً تَمَامًا عِنْدَمَا دَقَّتِ السَّاعَاتُ مُعْلِنَةً عَنِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إِلَّا رُبُعًا. فُتِحَتِ النَّافِذَةُ فجأة، وَطَارَتِ الْأَمِيرَةُ، الَّتِي كَانَتْ لَهَا أَجْنِحَةٌ سَوْدَاءُ كَبِيرَةٌ عَلَى كَتِفَيْهَا، وَرِدَاءٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْمَدِينَةِ نَحْوَ جَبَلٍ عَالٍ.
رَفِيقُ السَّفَرِ، الَّذِي جَعَلَ نَفْسَهُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ، حَتَّى لَا تَرَاهُ الْأَمِيرَةُ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، طَارَ خَلْفَهَا فِي الْهَوَاءِ، وَجَلَدَ الْأَمِيرَةَ بِعَصَاهُ، حَتَّى سَالَ الدَّمُ كُلَّمَا ضَرَبَهَا. آه، يَا لَهُ مِنْ طَيَرَانٍ غَرِيبٍ فِي الْهَوَاءِ! أَمْسَكَتِ الرِّيحُ بِرِدَائِهَا، فَانْتَشَرَ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، كَشِرَاعِ سَفِينَةٍ كَبِيرٍ، وَأَضَاءَ الْقَمَرُ مِنْ خِلَالِهِ. قَالَتِ الْأَمِيرَةُ عِنْدَ كُلِّ ضَرْبَةٍ تَلَقَّتْهَا مِنَ الْعَصَا: "كَمْ يَهْطِلُ الْبَرَدُ، بِالتَّأْكِيدِ!" وَكَانَتْ تَسْتَحِقُّ الْجَلْدَ.
أَخِيرًا وَصَلَتْ إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ، وَطَرَقَتْ. انْفَتَحَ الْجَبَلُ بِصَوْتٍ يُشْبِهُ دَوِيَّ الرَّعْدِ، وَدَخَلَتِ الْأَمِيرَةُ. تَبِعَهَا الْمُسَافِرُ؛ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ رُؤْيَتَهُ، لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ غَيْرَ مَرْئِيٍّ. مَرَّا عَبْرَ مَمَرٍّ طَوِيلٍ وَاسِعٍ. رَكَضَتْ أَلْفُ عَنْكَبُوتٍ لَامِعٍ هُنَا وَهُنَاكَ عَلَى الْجُدْرَانِ، مِمَّا جَعَلَهَا تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا مُضَاءَةٌ بِالنَّارِ.
ثُمَّ دَخَلَا قَاعَةً كَبِيرَةً مَبْنِيَّةً مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ. أَزْهَارٌ حَمْرَاءُ وَزَرْقَاءُ كَبِيرَةٌ لَمَعَتْ عَلَى الْجُدْرَانِ، تَبْدُو كَحَجْمِ زُهُورِ عَبَّادِ الشَّمْسِ، لَكِنْ لَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ عَلَى قَطْفِهَا، لِأَنَّ سِيقَانَهَا كَانَتْ أَفَاعِيَ سَامَّةً بَشِعَةً، وَالزُّهُورُ كَانَتْ أَلْسِنَةَ نَارٍ تَنْطَلِقُ مِنْ أَفْوَاهِهَا. غَطَّتْ يَرَاعَاتٌ مُضِيئَةٌ السَّقْفَ، وَخَفَافِيشٌ زَرْقَاءُ سَمَاوِيَّةٌ رَفْرَفَتْ بِأَجْنِحَتِهَا الشَّفَّافَةِ. بِشَكْلٍ عَامٍّ، كَانَ لِلْمَكَانِ مَظْهَرٌ مُخِيفٌ.
فِي مُنْتَصَفِ الْأَرْضِيَّةِ، وَقَفَ عَرْشٌ تَدْعَمُهُ أَرْبَعَةُ خُيُولٍ هَيْكَلِيَّةٍ، صُنِعَتْ لُجُمُهَا مِنْ عَنَاكِبَ حَمْرَاءَ نَارِيَّةٍ. الْعَرْشُ نَفْسُهُ كَانَ مَصْنُوعًا مِنْ زُجَاجٍ أَبْيَضَ كَالْحَلِيبِ، وَالْوَسَائِدُ كَانَتْ فِئْرَانًا سَوْدَاءَ صَغِيرَةً، كُلٌّ مِنْهَا يَعَضُّ ذَيْلَ الْآخَرِ. فَوْقَهُ تَدَلَّتْ مِظَلَّةٌ مِنْ شِبَاكِ عَنْكَبُوتٍ وَرْدِيَّةِ اللَّوْنِ، مُرَقَّطَةٌ بِأَجْمَلِ الذُّبَابِ الْأَخْضَرِ الصَّغِيرِ، الَّذِي يَتَلَأْلَأُ كَالْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ.
عَلَى الْعَرْشِ جَلَسَ سَاحِرٌ عَجُوزٌ يَرْتَدِي تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ الْقَبِيحِ، وَيُمْسِكُ صَوْلَجَانًا بِيَدِهِ. قَبَّلَ الْأَمِيرَةَ عَلَى جَبْهَتِهَا، وَأَجْلَسَهَا بِجَانِبِهِ عَلَى الْعَرْشِ الْفَاخِرِ، ثُمَّ بَدَأَتِ الْمُوسِيقَى. عَزَفَتْ جَنَادِبُ سَوْدَاءُ كَبِيرَةٌ عَلَى أُرْغُنِ الْفَمِ، وَضَرَبَتِ الْبُومَةُ نَفْسَهَا عَلَى جَسَدِهَا بَدَلًا مِنَ الطَّبْلِ. كَانَ حَفْلًا مُوسِيقِيًّا سَخِيفًا بِالْكَامِلِ. رَقَصَتْ عَفَارِيتُ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ ذَاتُ أَنْوَارٍ خَادِعَةٍ فِي قُبَّعَاتِهَا حَوْلَ الْقَاعَةِ؛ لَكِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ رُؤْيَةَ الْمُسَافِرِ، وَقَدْ وَضَعَ نَفْسَهُ خَلْفَ الْعَرْشِ مُبَاشَرَةً حَيْثُ يُمْكِنُهُ رُؤْيَةُ وَسَمَاعُ كُلِّ شَيْءٍ.
رِجَالُ الْبَلَاطِ الَّذِينَ دَخَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ بَدَوْا نُبَلَاءَ وَفَخْمِينَ؛ لَكِنَّ أَيَّ شَخْصٍ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ كَانَ سَيَرَى حَقِيقَتَهُمْ، مُجَرَّدَ أَعْوَادِ مَكَانِسَ، بِرُؤُوسٍ مِنْ كُرُنْبٍ. لَقَدْ مَنَحَهُمُ السَّاحِرُ الْحَيَاةَ، وَأَلْبَسَهُمْ أَرْدِيَةً مُطَرَّزَةً. كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَطْلُوبِينَ لِلْعَرْضِ فَقَطْ.
بَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الرَّقْصِ، أَخْبَرَتِ الْأَمِيرَةُ السَّاحِرَ أَنَّ لَدَيْهَا خَاطِبًا جَدِيدًا، وَسَأَلَتْهُ عَمَّا يُمْكِنُ أَنْ تُفَكِّرَ فِيهِ لِيُخَمِّنَهُ الْخَاطِبُ عِنْدَمَا يَأْتِي إِلَى الْقَلْعَةِ فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي.
قَالَ السَّاحِرُ: "اسْتَمِعِي إِلَى مَا أَقُولُهُ، يَجِبُ أَنْ تَخْتَارِي شَيْئًا سَهْلًا جِدًّا، فَمِنَ الْأَقَلِّ احْتِمَالًا أَنْ يُخَمِّنَهُ حِينَئِذٍ. فَكِّرِي فِي أَحَدِ أَحْذِيَتِكِ، لَنْ يَتَخَيَّلَ أَبَدًا أَنَّهُ ذَلِكَ. ثُمَّ اقْطَعِي رَأْسَهُ؛ وَاحْذَرِي أَنْ تَنْسَيْ إِحْضَارَ عَيْنَيْهِ مَعَكِ لَيْلَةَ الْغَدِ، حَتَّى آكُلَهُمَا."
انْحَنَتِ الْأَمِيرَةُ انْحِنَاءَةً عَمِيقَةً، وَقَالَتْ إِنَّهَا لَنْ تَنْسَى الْعَيْنَيْنِ. ثُمَّ فَتَحَ السَّاحِرُ الْجَبَلَ وَطَارَتْ عَائِدَةً إِلَى بَيْتِهَا، لَكِنَّ الْمُسَافِرَ تَبِعَهَا وَجَلَدَهَا بِالْعَصَا بِشِدَّةٍ، حَتَّى تَنَهَّدَتْ بِعُمْقٍ شَدِيدٍ بِسَبَبِ عَاصِفَةِ الْبَرَدِ الْقَوِيَّةِ، وَأَسْرَعَتْ بِقَدْرِ مَا تَسْتَطِيعُ لِلْعَوْدَةِ إِلَى غُرْفَةِ نَوْمِهَا مِنْ خِلَالِ النَّافِذَةِ. ثُمَّ عَادَ الْمُسَافِرُ إِلَى الْحَانَةِ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا لَا يَزَالُ نَائِمًا، وَخَلَعَ أَجْنِحَتَهُ وَاسْتَلْقَى عَلَى السَّرِيرِ، فَقَدْ كَانَ مُتْعَبًا جِدًّا.
فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ، اسْتَيْقَظَ يُوحَنَّا، وَعِنْدَمَا نَهَضَ رَفِيقُ سَفَرِهِ، قَالَ إِنَّهُ حَلَمَ حُلْمًا عَجِيبًا جِدًّا عَنِ الْأَمِيرَةِ وَحِذَائِهَا، لِذَا نَصَحَ يُوحَنَّا أَنْ يَسْأَلَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ قَدْ فَكَّرَتْ فِي حِذَائِهَا. بِالطَّبْعِ، عَلِمَ الْمُسَافِرُ هَذَا مِمَّا قَالَهُ السَّاحِرُ فِي الْجَبَلِ.
قَالَ يُوحَنَّا: "يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ كَأَيِّ شَيْءٍ آخَرَ. رُبَّمَا يَتَحَقَّقُ حُلْمُكَ؛ وَمَعَ ذَلِكَ سَأُوَدِّعُكَ، فَإِذَا أَخْطَأْتُ فِي التَّخْمِينِ فَلَنْ أَرَاكَ مَرَّةً أُخْرَى."
ثُمَّ تَعَانَقَا، وَذَهَبَ يُوحَنَّا إِلَى الْمَدِينَةِ وَسَارَ إِلَى الْقَصْرِ. كَانَتِ الْقَاعَةُ الْكَبِيرَةُ مُمْتَلِئَةً بِالنَّاسِ، وَجَلَسَ الْقُضَاةُ فِي كَرَاسِيَّ ذَاتِ مَسَانِدَ، وَوُضِعَتْ وِسَادَاتٌ مِنْ رِيشِ الْإِيدَرْ لِيُرِيحُوا رُؤُوسَهُمْ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لَدَيْهِمْ الْكَثِيرَ لِيُفَكِّرُوا فِيهِ. وَقَفَ الْمَلِكُ الْعَجُوزُ بِالْقُرْبِ، يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ بِمِنْدِيلِ جَيْبِهِ الْأَبْيَضِ.
عِنْدَمَا دَخَلَتِ الْأَمِيرَةُ، بَدَتْ أَجْمَلَ حَتَّى مِمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ فِي الْيَوْمِ السَّابِقِ، وَحَيَّتْ كُلَّ الْحَاضِرِينَ بِأُسْلُوبٍ رَشِيقٍ جِدًّا؛ أَمَّا يُوحَنَّا فَقَدْ مَدَّتْ لَهُ يَدَهَا، وَقَالَتْ: "صَبَاحُ الْخَيْرِ لَكَ."
الْآنَ حَانَ وَقْتُ يُوحَنَّا لِيُخَمِّنَ مَا كَانَتْ تُفَكِّرُ فِيهِ؛ وَأَوْه، كَمْ نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِلُطْفٍ وَهِيَ تَتَحَدَّثُ. لَكِنْ عِنْدَمَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ "حِذَاء" وَحْدَهَا، شَحُبَ وَجْهُهَا كَالشَّبَحِ؛ لَمْ تُسْعِفْهَا كُلُّ حِكْمَتِهَا، فَقَدْ خَمَّنَ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ.
أَوْه، كَمْ كَانَ الْمَلِكُ الْعَجُوزُ مَسْرُورًا! كَانَ مُسَلِّيًا حَقًّا أَنْ تَرَاهُ يَقْفِزُ فَرِحًا. صَفَّقَ جَمِيعُ النَّاسِ، مِنْ أَجْلِهِ وَمِنْ أَجْلِ يُوحَنَّا، الَّذِي خَمَّنَ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى.
فَرِحَ رَفِيقُ سَفَرِهِ أَيْضًا، عِنْدَمَا سَمِعَ بِمَدَى نَجَاحِ يُوحَنَّا. لَكِنَّ يُوحَنَّا ضَمَّ يَدَيْهِ، وَشَكَرَ اللهَ، الَّذِي شَعَرَ بِتَأْكِيدٍ أَنَّهُ سَيُسَاعِدُهُ مَرَّةً أُخْرَى؛ وَعَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُخَمِّنَ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. مَرَّ الْمَسَاءُ بِلُطْفٍ كَالْمَسَاءِ الَّذِي سَبَقَهُ.
بَيْنَمَا كَانَ يُوحَنَّا نَائِمًا، طَارَ رَفِيقُهُ خَلْفَ الْأَمِيرَةِ إِلَى الْجَبَلِ، وَجَلَدَهَا بِقَسْوَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ذِي قَبْلُ؛ هَذِهِ الْمَرَّةَ أَخَذَ مَعَهُ عَصَوَيْنِ. لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يَدْخُلُ مَعَهَا، وَسَمِعَ كُلَّ مَا قِيلَ. كَانَ عَلَى الْأَمِيرَةِ هَذِهِ الْمَرَّةَ أَنْ تُفَكِّرَ فِي قُفَّازٍ، وَأَخْبَرَ يُوحَنَّا بِذَلِكَ كَأَنَّهُ سَمِعَهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي حُلْمٍ.
لِذَلِكَ، فِي الْيَوْمِ التَّالِي، تَمَكَّنَ مِنْ التَّخْمِينِ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَأَثَارَ ذَلِكَ ابْتِهَاجًا عَظِيمًا فِي الْقَصْرِ. قَفَزَ الْبَلَاطُ كُلُّهُ كَمَا رَأَوْا الْمَلِكَ يَفْعَلُ فِي الْيَوْمِ السَّابِقِ، لَكِنَّ الْأَمِيرَةَ اسْتَلْقَتْ عَلَى الْأَرِيكَةِ، وَلَمْ تَنْطِقْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.
الْآنَ كُلُّ شَيْءٍ يَعْتَمِدُ عَلَى يُوحَنَّا. إِذَا خَمَّنَ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ لِلْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فَقَطْ، سَيَتَزَوَّجُ الْأَمِيرَةَ، وَيَحْكُمُ الْمَمْلَكَةَ بَعْدَ وَفَاةِ الْمَلِكِ الْعَجُوزِ: لَكِنْ إِذَا فَشِلَ، فَسَيَفْقِدُ حَيَاتَهُ، وَسَيَحْصُلُ السَّاحِرُ عَلَى عَيْنَيْهِ الزَّرْقَاوَيْنِ الْجَمِيلَتَيْنِ.
ذَلِكَ الْمَسَاءَ، صَلَّى يُوحَنَّا وَذَهَبَ إِلَى الْفِرَاشِ مُبَكِّرًا جِدًّا، وَسُرْعَانَ مَا غَطَّ فِي نَوْمٍ هَادِئٍ. لَكِنَّ رَفِيقَهُ رَبَطَ أَجْنِحَتَهُ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَأَخَذَ ثَلَاثَ عِصِيٍّ، وَسَيْفُهُ بِجَانِبِهِ، وَطَارَ إِلَى الْقَصْرِ.
كَانَتْ لَيْلَةً مُظْلِمَةً جِدًّا، وَعَاصِفَةً لِدَرَجَةِ أَنَّ الْقِرْمِيدَ تَطَايَرَ مِنْ أَسْطُحِ الْبُيُوتِ، وَالْأَشْجَارُ فِي الْحَدِيقَةِ الَّتِي عُلِّقَتْ عَلَيْهَا الْهَيَاكِلُ الْعَظْمِيَّةُ انْحَنَتْ كَالْقَصَبِ أَمَامَ الرِّيحِ. لَمَعَ الْبَرْقُ، وَدَوَّى الرَّعْدُ فِي قَصْفٍ مُتَوَاصِلٍ طَوَالَ اللَّيْلِ.
فُتِحَتْ نَافِذَةُ الْقَلْعَةِ، وَطَارَتِ الْأَمِيرَةُ. كَانَتْ شَاحِبَةً كَالْمَوْتِ، لَكِنَّهَا ضَحِكَتْ مِنَ الْعَاصِفَةِ كَأَنَّهَا لَيْسَتْ سَيِّئَةً بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. رَفْرَفَ رِدَاؤُهَا الْأَبْيَضُ فِي الرِّيحِ كَشِرَاعٍ كَبِيرٍ، وَجَلَدَهَا الْمُسَافِرُ بِالْعِصِيِّ الثَّلَاثِ حَتَّى تَقَاطَرَ الدَّمُ، وَأَخِيرًا كَادَتْ لَا تَسْتَطِيعُ الطَّيَرَانَ؛ وَمَعَ ذَلِكَ، تَدَبَّرَتْ أَمْرَ الْوُصُولِ إِلَى الْجَبَلِ.
قَالَتْ وَهِيَ تَدْخُلُ: "يَا لَهَا مِنْ عَاصِفَةِ بَرَدٍ! لَمْ أَخْرُجْ قَطُّ فِي طَقْسٍ كَهَذَا."
قَالَ السَّاحِرُ: "نَعَمْ، قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْجَيِّدُ أَحْيَانًا أَكْثَرَ مِمَّا يَنْبَغِي." ثُمَّ أَخْبَرَتِ الْأَمِيرَةُ السَّاحِرَ أَنَّ يُوحَنَّا قَدْ خَمَّنَ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَإِذَا نَجَحَ فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، فَسَيَفُوزُ، وَلَنْ تَسْتَطِيعَ الْقُدُومَ إِلَى الْجَبَلِ مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ مُمَارَسَةَ السِّحْرِ كَمَا فَعَلَتْ مِنْ قَبْلُ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تَعِيسَةً جِدًّا.
"سَأَجِدُ لَكِ شَيْئًا تُفَكِّرِينَ فِيهِ لَنْ يُخَمِّنَهُ أَبَدًا، إِلَّا إِذَا كَانَ مُشَعْوِذًا أَعْظَمَ مِنِّي. وَلَكِنِ الْآنَ لِنَكُنْ مَرِحِينَ." ثُمَّ أَمْسَكَ الْأَمِيرَةَ بِكِلْتَا يَدَيْهَا، وَرَقَصَا مَعَ جَمِيعِ الْعَفَارِيتِ الصَّغِيرَةِ وَالْفَوَانِيسِ الْوَهْمِيَّةِ فِي الْغُرْفَةِ. قَفَزَتِ الْعَنَاكِبُ الْحَمْرَاءُ هُنَا وَهُنَاكَ عَلَى الْجُدْرَانِ بِمَرَحٍ كَبِيرٍ، وَبَدَتْ أَزْهَارُ النَّارِ كَأَنَّهَا تَقْذِفُ شَرَرًا. ضَرَبَتِ الْبُومَةُ الطَّبْلَ، وَصَفَّرَتِ الصَّرَاصِرُ، وَعَزَفَتِ الْجَنَادِبُ عَلَى أُرْغُنِ الْفَمِ. كَانَتْ حَفْلَةً رَاقِصَةً سَخِيفَةً جِدًّا.
بَعْدَ أَنْ رَقَصُوا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، اضْطُرَّتِ الْأَمِيرَةُ لِلْعَوْدَةِ إِلَى الْبَيْتِ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يُفْتَقَدَ وُجُودُهَا فِي الْقَصْرِ. عَرَضَ السَّاحِرُ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهَا، لِيَكُونَا رُفْقَةً لِبَعْضِهِمَا الْبَعْضَ فِي الطَّرِيقِ.
ثُمَّ طَارَا بَعِيدًا عَبْرَ الطَّقْسِ السَّيِّئِ، وَتَبِعَهُمَا الْمُسَافِرُ، وَكَسَرَ عِصِيَّهُ الثَّلَاثَ عَلَى أَكْتَافِهِمَا. لَمْ يَخْرُجِ السَّاحِرُ قَطُّ فِي عَاصِفَةِ بَرَدٍ كَهَذِهِ. بِالْقُرْبِ مِنَ الْقَصْرِ، تَوَقَّفَ السَّاحِرُ لِيُوَدِّعَ الْأَمِيرَةَ، وَلِيَهْمِسَ فِي أُذُنِهَا: "غَدًا فَكِّرِي فِي رَأْسِي."
لَكِنَّ الْمُسَافِرَ سَمِعَ ذَلِكَ، وَمَا إِنْ انْزَلَقَتِ الْأَمِيرَةُ مِنْ خِلَالِ النَّافِذَةِ إِلَى غُرْفَةِ نَوْمِهَا، وَاسْتَدَارَ السَّاحِرُ لِيَطِيرَ عَائِدًا إِلَى الْجَبَلِ، حَتَّى أَمْسَكَهُ مِنْ لِحْيَتِهِ السَّوْدَاءِ الطَّوِيلَةِ، وَبِسَيْفِهِ الْمُنْحَنِي قَطَعَ رَأْسَ الْمُشَعْوِذِ الشِّرِّيرِ مِنْ خَلْفِ كَتِفَيْهِ مُبَاشَرَةً، حَتَّى لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. أَلْقَى الْجُثَّةَ فِي الْبَحْرِ لِلْأَسْمَاكِ، وَبَعْدَ أَنْ غَمَرَ الرَّأْسَ فِي الْمَاءِ، رَبَطَهُ فِي مِنْدِيلٍ حَرِيرِيٍّ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى الْحَانَةِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْفِرَاشِ.
فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، أَعْطَى يُوحَنَّا الْمِنْدِيلَ، وَأَخْبَرَهُ أَلَّا يَفُكَّهُ حَتَّى تَسْأَلَهُ الْأَمِيرَةُ عَمَّا تُفَكِّرُ فِيهِ.
كَانَ هُنَاكَ عَدَدٌ كَبِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الْقَاعَةِ الْكَبِيرَةِ لِلْقَصْرِ لِدَرَجَةِ أَنَّهُمْ وَقَفُوا مُتَزَاحِمِينَ كَالْفُجْلِ الْمَرْبُوطِ مَعًا فِي حُزْمَةٍ. جَلَسَ الْمَجْلِسُ فِي كَرَاسِيِّهِمْ ذَاتِ الْمَسَانِدِ وَالْوِسَادَاتِ الْبَيْضَاءِ. ارْتَدَى الْمَلِكُ الْعَجُوزُ أَرْدِيَةً جَدِيدَةً، وَتَمَّ تَلْمِيعُ التَّاجِ الذَّهَبِيِّ وَالصَّوْلَجَانِ حَتَّى بَدَا أَنِيقًا جِدًّا. لَكِنَّ الْأَمِيرَةَ كَانَتْ شَاحِبَةً جِدًّا، وَتَرْتَدِي فُسْتَانًا أَسْوَدَ كَأَنَّهَا ذَاهِبَةٌ إِلَى جِنَازَةٍ.
سَأَلَتِ الْأَمِيرَةُ يُوحَنَّا: "فِيمَا فَكَّرْتُ؟" فَكَ يُوحَنَّا الْمِنْدِيلَ عَلَى الْفَوْرِ، وَخَافَ هُوَ نَفْسُهُ عِنْدَمَا رَأَى رَأْسَ السَّاحِرِ الْقَبِيحِ. ارْتَعَشَ الْجَمِيعُ، فَقَدْ كَانَ النَّظَرُ إِلَيْهِ مُرْعِبًا؛ لَكِنَّ الْأَمِيرَةَ جَلَسَتْ كَالتِّمْثَالِ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.
أَخِيرًا نَهَضَتْ وَمَدَّتْ يَدَهَا لِيُوحَنَّا، فَقَدْ خَمَّنَ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ. لَمْ تَنْظُرْ إِلَى أَحَدٍ، لَكِنَّهَا تَنَهَّدَتْ بِعُمْقٍ، وَقَالَتْ: "أَنْتَ سَيِّدِي الْآنَ؛ هَذَا الْمَسَاءَ يَجِبُ أَنْ يَتِمَّ زَوَاجُنَا."
قَالَ الْمَلِكُ الْعَجُوزُ: "أَنَا سَعِيدٌ جِدًّا بِسَمَاعِ ذَلِكَ. هَذَا تَمَامًا مَا أَتَمَنَّاهُ." ثُمَّ هَتَفَ جَمِيعُ النَّاسِ "هُورَاي". عَزَفَتِ الْفِرْقَةُ الْمُوسِيقِيَّةُ فِي الشَّوَارِعِ، وَدَقَّتِ الْأَجْرَاسُ، وَأَزَالَتْ نِسَاءُ بَيْعِ الْكَعْكِ شَرَائِطَ الْحِدَادِ السَّوْدَاءِ عَنْ أَعْوَادِ السُّكَّرِ. سَادَتْ فَرْحَةٌ عَامَّةٌ.
ثَلَاثَةُ ثِيرَانٍ، مَحْشُوَّةٌ بِالْبَطِّ وَالدَّجَاجِ، شُوِيَتْ كَامِلَةً فِي سَاحَةِ السُّوقِ، حَيْثُ يُمْكِنُ لِأَيِّ شَخْصٍ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ شَرِيحَةً. انْدَفَعَتْ مِنْ النَّوَافِيرِ أَلَذُّ أَنْوَاعِ النَّبِيذِ، وَكُلُّ مَنِ اشْتَرَى رَغِيفًا بِقِرْشٍ مِنَ الْخَبَّازِ حَصَلَ عَلَى سِتِّ كَعْكَاتٍ كَبِيرَةٍ، مَلِيئَةٍ بِالزَّبِيبِ، كَهَدِيَّةٍ.
فِي الْمَسَاءِ، أُضِيئَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا. أَطْلَقَ الْجُنُودُ الْمَدَافِعَ، وَأَطْلَقَ الْأَوْلَادُ الْمُفَرْقَعَاتِ. كَانَ هُنَاكَ أَكْلٌ وَشُرْبٌ، وَرَقْصٌ وَقَفْزٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ. فِي الْقَصْرِ، رَقَصَ السَّادَةُ الرَّفِيعُو الْمَقَامِ وَالسَّيِّدَاتُ الْجَمِيلَاتُ مَعَ بَعْضِهِمُ الْبَعْضَ، وَكَانَ بِالْإِمْكَانِ سَمَاعُهُمْ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ يُغَنُّونَ الْأُغْنِيَةَ التَّالِيَةَ: —
لَكِنَّ الْأَمِيرَةَ كَانَتْ لَا تَزَالُ سَاحِرَةً، وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُحِبَّ يُوحَنَّا. كَانَ رَفِيقُ سَفَرِهِ قَدْ فَكَّرَ فِي ذَلِكَ، فَأَعْطَى يُوحَنَّا ثَلَاثَ رِيشَاتٍ مِنْ أَجْنِحَةِ الْبَجْعَةِ، وَزُجَاجَةً صَغِيرَةً فِيهَا بِضْعُ قَطَرَاتٍ. أَخْبَرَهُ أَنْ يَضَعَ حَوْضَ اسْتِحْمَامٍ كَبِيرًا مَلِيئًا بِالْمَاءِ بِجَانِبِ سَرِيرِ الْأَمِيرَةِ، وَأَنْ يَضَعَ الرِّيشَ وَالْقَطَرَاتِ فِيهِ. ثُمَّ، فِي اللَّحْظَةِ الَّتِي تُوشِكُ فِيهَا عَلَى الدُّخُولِ إِلَى السَّرِيرِ، يَجِبُ أَنْ يَدْفَعَهَا دَفْعَةً صَغِيرَةً، حَتَّى تَسْقُطَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يَغْطِسَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. هَذَا سَيُدَمِّرُ قُوَّةَ السَّاحِرِ، وَسَتُحِبُّهُ كَثِيرًا.
فَعَلَ يُوحَنَّا كُلَّ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ رَفِيقُهُ. صَرَخَتِ الْأَمِيرَةُ بِصَوْتٍ عَالٍ عِنْدَمَا غَطَّسَهَا تَحْتَ الْمَاءِ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى، وَتَخَبَّطَتْ تَحْتَ يَدَيْهِ فِي شَكْلِ بَجْعَةٍ سَوْدَاءَ كَبِيرَةٍ ذَاتِ عَيْنَيْنِ نَارِيَّتَيْنِ. عِنْدَمَا خَرَجَتْ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْمَاءِ، كَانَتِ الْبَجْعَةُ قَدْ أَصْبَحَتْ بَيْضَاءَ، مَعَ حَلَقَةٍ سَوْدَاءَ حَوْلَ عُنُقِهَا. سَمَحَ يُوحَنَّا لِلْمَاءِ أَنْ يُغْلَقَ مَرَّةً أُخْرَى فَوْقَ الطَّائِرِ، وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ تَحَوَّلَتْ إِلَى أَمِيرَةٍ رَائِعَةِ الْجَمَالِ. كَانَتْ أَجْمَلَ حَتَّى مِنْ ذِي قَبْلُ، وَشَكَرَتْهُ، بَيْنَمَا كَانَتْ عَيْنَاهَا تَتَلَأْلَآنِ بِالدُّمُوعِ، لِأَنَّهُ كَسَرَ سِحْرَ السَّاحِرِ.
فِي الْيَوْمِ التَّالِي، جَاءَ الْمَلِكُ مَعَ الْبَلَاطِ كُلِّهِ لِتَقْدِيمِ التَّهَانِي، وَبَقُوا حَتَّى وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ جِدًّا. آخِرُ مَنْ جَاءَ كَانَ رَفِيقُ السَّفَرِ؛ كَانَ يُمْسِكُ عَصَاهُ بِيَدِهِ وَحَقِيبَةَ ظَهْرِهِ عَلَى ظَهْرِهِ. قَبَّلَهُ يُوحَنَّا عِدَّةَ مَرَّاتٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَجِبُ أَلَّا يَذْهَبَ، يَجِبُ أَنْ يَبْقَى مَعَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ كُلِّ حَظِّهِ الْجَيِّدِ.
لَكِنَّ الْمُسَافِرَ هَزَّ رَأْسَهُ، وَقَالَ بِلُطْفٍ وَوُدٍّ: "لَا؛ وَقْتِي قَدِ انْتَهَى الْآنَ؛ لَقَدْ سَدَّدْتُ دَيْنِي لَكَ فَقَطْ. هَلْ تَتَذَكَّرُ الرَّجُلَ الْمَيِّتَ الَّذِي أَرَادَ الْأَشْخَاصُ السَّيِّئُونَ أَنْ يُلْقُوا بِهِ خَارِجَ نَعْشِهِ؟ لَقَدْ أَعْطَيْتَ كُلَّ مَا تَمْلِكُ لِكَيْ يَرْقُدَ فِي قَبْرِهِ؛ أَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ."
وَمَا إِنْ قَالَ هَذَا، حَتَّى اخْتَفَى.
اسْتَمَرَّتِ احْتِفَالَاتُ الزِّفَافِ شَهْرًا كَامِلًا. أَحَبَّ يُوحَنَّا وَأَمِيرَتُهُ بَعْضَهُمَا الْبَعْضَ بِشِدَّةٍ، وَعَاشَ الْمَلِكُ الْعَجُوزُ لِيَرَى أَيَّامًا سَعِيدَةً كَثِيرَةً، عِنْدَمَا كَانَ يَحْمِلُ أَطْفَالَهُمَا الصِّغَارَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَدَعُهُمْ يَلْعَبُونَ بِصَوْلَجَانِهِ. وَأَصْبَحَ يُوحَنَّا مَلِكًا عَلَى الْبِلَادِ كُلِّهَا.